بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا حول ولا قوة إلا بالله
ليت الموت اعدمني الحياة بعدك يا ابا عبد الله
تقدّمَ (عليه السلام)نحوَ القَومِ مُصْلِتَاً سيفَهُ آيساً من الحياةِ عازِماً على الشهادةِ، ودعا الناسَ إلى البرازِ، فَلَمْ يَزَلْ يَقَتلُ كلَّ مَن بَرزَ اليهِ حتّى قَتلَ جَمْعاً كَثيراً، وهو يقولُ:
أَنَا ابنُ عليّ الطُّهرِ مِنْ آلِ هاشِم***كَفانِي بهذا مَفْخَراً حينُ أفخرُ
وجَدّيْ رسولُ اللهِ أكرمُ مَن مَضَى***ونَحنُ سِراجُ اللهِ في الأرضِ نُزهرُ
وفاطمةُ أمّي ابنةُ الطُهرِ أحمد***وعَمّيَّ ـ يُدْعَى ذا الجِناحين ـ جَعفرُ
ثم حمل على الميمنة وهو يقول:
الموتُ أولَى من ركوبِ العارِ***والعارُ أولَى منْ دُخولِ النَّارِ
ثُمّ حَملَ علَى المَيسرةِ، وهو يَقولُ:
أنا الحُسينُ بنُ عليّ ***آليتُ أنْ لا أَنثَنِي
أَحْمِي عيالاتِ أَبِي***أمْضِي على دينِ النبيْ
قال بعضُ من حضَرَ المعرَكَة: «فواللهِ، ما رَأيتُ مَكثُوراً ـ قَط ـ قَد قُتِلَ وِلْدُهُ وأهلُ بيتِهِ وصحبُهُ أَرْبطَ جَأشاً مِنْهُ،
ولا أمْضَى جِنانَاً ولا أَجْرأَ مَقدَماً، ولَمْ أرَ قبلَهُ ولا بَعدَهُ
مثلَهُ، ولقَد كانَتْ الرِّجالُ لتَشدُّ عليهِ، فيشدُّ علَيها، فتَنْكشفُ
بَينَ يَديهِ إذا شدَّ عليها، ولقدْ كانَ يَحمِلُ عليهم، وقد تَكامَلُوا ثلاثين ألفاً، فينهزمونَ بينَ يديهِ كأنَّهمْ الجَرادُ المُنتَشِرُ،
ولَمْ يَثبتْ له أحدٌ، ثُمَّ يَرجِعُ إلى مركزِهِ وهو يَقولُ: «لا حولَ
ولا قوَّةَ إلاّ باللهِ العليِّ العظيمِ» حتَى قَتلَ منهُمْ مَقتلةْ
عَظيمةً.
فَعنِدَ ذلكَ صاحَ عُمرُ بنِ سعد بِقومهِ: الويلُ لكُم، أَتدرونَ مَنْ تُقاتِلونَ، هذا ابنُ الأنزعِ البطينِ، هذا ابنُ قتّالِ العَربِ، احْملُوا عليهِ منْ كلّ جانب، فاسْتدعَى شِمرٌ الفُرسانَ، فَصارُوا في ظهرِ الرَّجالةِ، وأمَرَ رماةَ أنْ يَرمُوهُ وكانُوا أربعةَ آلاف فَرشَقُوهُ بالسِّهامِ، وجاءَ الشّمرُ في جَماعَة منْ أصْحَابه، فحالُوا بينَ الحسينِ(عليه السلام)وبينَ رحلِهِ وعيالِهِ، فصاحَ بِهمْ: «ويَحَكُمْ يا شيعةَ آلَ أَبي سُفيانَ، إنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ ديِنٌ، وكُنتُمْ لا تخَافَونَ المَعادِ، فَكونُوا أحراراً في دُنْياكُم وارجِعُوا إلى أحْسابِكُمْ إنْ كُنتُم عُرُباً كَما تَزْعُمُون».
فقالوا له: ما تقولُ يابن فاطمة؟
فقال: «أقولُ: أنا الذي أُقاتُلكُم وتُقاتِلُوني، والنساءُ ليسَ عليهَّن جُناحٌ، فامنعَوا عتاتَكم وجُهّالكُم عن التعرضِ لحرمي ما دمتُ جيّاً».
فقالَ شمرٌ: لك ذلك يا حسينُ، ثم صاحَ بالقومِ:
إليكُم عن حرمِ الرَجلِ، فاقصدُوهُ بنفسِهِ، فلعَمري لهو كفؤٌ كريمٌ. فقصدَهُ القومُ واشتدّ القتالُ، وجَعلَ يَحملُ عليهم ويحملونَ عليهِ، وقدْ اشتدّ بهِ العطشُ، وكلّما حَملَ بفَرسهِ علَى الفُراتِ حَملوا عليهِ حتّى أجلَوْهُ عنْهُ، ودنا من الفرات ـ ثانياً ـ فرماهُ الحُصينُ بنُ نُمير بسهم، وَقعَ في فمهِ الشريفِ، فَجعلَ يتلقّى الدمَ من فمهِ ويَرمي بهِ نحوَ السماءِ ـ وفي رواية ـ رماهُ رجلٌ دارميٌّ بسهم أثْبتَهُ في حنكِهِ الشريفِ فانتزعَ الحسينُ (عليه السلام)السهمَ من حنكِهِ وبسطَ يديهِ تحتَ الجرحِ، فلّما امتلأتْ راحتَاه من الدمِ رمى بهِ نحوَ السماءِ وقالَ:
«اللّهمّ إنّي أشْكو إليكَ ما يُفعلُ بابنِ بنتِ نبيّكِ، اللّهمّ أَحصهِم عَدداً، واقتلُهمْ بَدداَ، ولا تُبقِ مِنهُم أَحداً».
وحَملَ من نحو الفراتِ على الأعْورِ السّلَمي وعَمْرو بنِ الحجّاجِ وكانَا في أربعةِ آلاف، فكَشفَهُم عن الماءِ وأقْحمَ الفرسَ في الفُراتِ، ولمّا مدّ الحُسينُ (عليه السلام)يدَهُ إلى الماءِ ليَشربَ ناداهُ لعينٌ من القومِ: يا حُسينُ، أتلتذ بِشربِ الماءِ، وقد هُتِكَتْ حُرمُكَ. فنفضَ الماءَ من يدهِ ولمْ يَشربْ، وحَملَ علَى القَومِ، فَكشفَهم وقَصدَ الخيمةَ، فاذا هيَ سالمةٌ.
ثم إنّه (عليه السلام)ودّع عياله ـ ثالثاً ـ وأمرَهم بالصبرِ، ولَبِسَ الأُزُرَ، ووَعدَهم بالثواب والأجْرِ وقالَ لَهم:
«استعدّوا للبلاءِ، واعلموا أنّ اللهَ تعالى حاميكُمْ وحافظُكمْ، وسيُنجِّيكُم من شرّ الأعداءِ، ويَجعلُ عاقبةَ أمركم إلى خير، ويُعذّبُ عدوَّكُم بأنواعِ العذابِ، ويُعَوّضَكُمْ ما يَنقصُ منْ قَدرِكُم».
فصاحَ عُمَرُ بنُ سعد بقومهِ: ويَحكُم، اهجموا عليهِ ما دامَ مشغولاً بنفسهِ وحرمِهِ، واللهِ إنْ فَرِغَ لكُم لا تَمتازُ ميمنَتُكُم
عن ميسرتِكُم، فَحَملُوا عليهِ يرمونَه بالسّهامِ، حتّى تَخالفتْ السّهامُ بينَ أطنابِ المخيّم، وشكّ سهمٌ بعضَ أُزُرِ النّساءِ، فَدُهشْنَ وأُرْعبْنَ وصِحْنَ ودَخلْنَ الخَيمةَ، وهُنّ يَنْظُرنَ
إلى الحسينِ كيفَ يَصنعُ. فَحملَ على القومِ كالليثِ الغَضبانِ، فلا يَلحقُ أَحداً إلاّ بَعجَهُ بسيفِهِ فقَتلَهُ أو طَعنَهُ بِرحمِهِ فَصَرعهُ، والسِّهامُ تَأخذُه من كلّ جانب وهو يتّقيها بصدرِهِ ونحرِهِ ويقولُ:
«يا أمةَ السّوءِ، بِئْسَما خَلّفتُم مُحمَداً في عترتِهِ، أمَا
إنّكُم لن تَقتُلوا بَعدي عَبْداً من عبادِ اللهِ، فتَهابُون قتلَهُ، بلْ يَهونُ عليكُم ذلك عندَ قتلِكُم إيّايَ، وأَيمُ اللهِ إنّي لأَرْجو أن يكرمَني الله بالشهادةِ، ثُمْ ينتَقِمُ لي مِنكُم من حيثُ لا تشعُرُونَ».
فناداهُ الحُصينُ بنُ مالك: وبماذا ينتقمُ لكَ منّا يا ابنَ فاطمة؟
فقالَ الحُسينُ (عليه السلام): «يُلقِي بَأسَكُم بينَكُم، ويَسِفكُ دماءَكُم، ثُمّ يَصبُّ عليكُم العذابَ الأليمَ».
ورَجعَ (عليه السلام)إلى مركزِهِ، وهو يُكثِرُ من قَولِ: «لا حولَ ولا قوّةَ إلاّ باللهِ العلّي العظيمِ»، وطَلَبَ في هذه الحالِ ماءً، فقالَ لهُ الشّمرُ: لا تَردُهُ حتّى تَرِدَ النارَ، وناداهُ لعينٌ من القومِ: يا حسينُ، ألا تَرَى الفُراتَ، كأنّه بُطونُ الحيّاتِ، فلا تَشربُ منْهُ قَطرةً حتّى تموتَ عَطَشاً.
فقالَ الحُسينُ (عليه السلام): «اللّهمّ أَمِتْهُ عَطَشاً».
فكان ذلكَ الرجلُ يَطلبُ الماءَ، فيُؤتَى بهِ، فَيَشربُ حتّى يخرجَ من فيهِ، وما زالَ كذلكَ إلى أن ماتَ عَطَشاً.
ورماه أبو الحتوفِ الجُعفِي بسهم وَقعَ في جبهتِهِ المقدّسةِ فنَزعَهُ، وسالَتْ الدِماءُ على وجهِهِ وكريمتِهِ، فقالَ:
«اللّهمّ إنّكَ تَرى ما أنا فيه من عبادِكِ هؤلاءِ العُصاةِ، اللّهمّ أَحْصَهِمْ عَدَداً واقتُلْهُم بَدَداً، ولا تَذَر على وجهِ الأرضِ منهُم أحداً، ولا تَغفرْ لَهُم أَبَداً».
ثُمّ لم يزلْ (عليه السلام)يُقاتِلُ حتّى أَصابَتْهُ جِراحاتٌ كَثيرةٌ، وكُلُها في مُقَدَّمهِ الشريفِ، وكانَتْ السّهامُ في دِرعه كالشّوكِ في جِلْد القُنفذِ .
ولمّا ضَعُفَ عن القتالِ وقفَ ليستريحَ قَلَيلاً، فَرماهُ رجلٌ بِحجَر في جبهِتِه الشّريفةِ، فسالَتْ الدِّماءُ على وجهِهِ، فأَخذَ الثَوبَ لِيَمْسحَ الدمَ عن وجهِهِ وعينيهِ، فأَتاهُ سهمٌ مُحدَدٌ مسمومٌ لهُ ثلاثُ شُعِب وَقعَ على قلبِهِ فقالَ (عليه السلام): «بِسمِ اللهِ وباللهِ وعلى ملّةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورَفعَ رأسَهُ إلى السماءِ وقالَ إلهي إنّكَ تعلَمُ إنّهم يَقتِلونَ رَجُلاً، ليسَ على وجهِ الأرضِ ابنُ بِنتِ نَبيٍّ غَيرُهُ». ثُمّ أَخذَ السّهمَ فأَخْرَجَهُ من وراءِ ظَهرِه، فانبعثَ الدمُ كالميزابِ فوَضعَ يَدَهُ تَحتَ الجُرحِ، فلّما امتلأَتْ دَماً، رَمَى بهِ نحوَ السّماءِ، وقالَ: «هَوّنَ عليّ ما نَزلَ بِي أَنّهُ بعينِ اللهِ»، فلمْ تَسقُطْ من ذلك الدّم قَطرةٌ إلى الأرضِ، ثُمَ وَضعَ يَدَهُ ـ ثانياً ـ فلمّا امتلأَتْ لطّخَ بهِ رأسَهُ ووَجْهَهُ ولحيَتَهُ، وقالَ: «هكذا أكون، حتّى أَلقَى اللهَ وجدّي رسولَ الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأَنا مُخضَّبٌ بدمي...».
ولمّا أُثْخِنَ (عليه السلام)بالجِراحِ طعنه صالحٌ بنُ وهب المرِّي في خاصرتِهِ طعنةً فسقَطَ عن فرسِهِ إلى الأرضِ على خدِّهِ الأيمنِ وهو يقولُ: «بِسمِ اللهِ وباللهِ وعلَى ملّةِ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)».
وأعياهُ نَزفُ الدّمِ، فجَلَسَ على الأرضِ يَنوءُ برقبتِهِ، فانْتَهى إليه في تلكَ الحالِ مالكُ بنُ النَّسر الكندي، فشتَمَهُ ثُمّ ضرَبَهُ بالسيفِ على رأسِهِ، وكانَ عليهِ بُرنُسٌ، فامْتَلأَ البُرنُسُ دَماً فقالَ الحُسينُ (عليه السلام): «لا أكلتَ بيمينِكِ ولاَ شربْتَ بِها، وحَشَرَكَ اللهُ مع الظالمينَ» ثم ألقى البُرنُسَ وشدّ رأسَهُ بخرقَة استدعاها، ودعا بقُلْنُسْوَة، فلَبِسَها، واعتمّ عليها.
ومكثَ الحُسينُ (عليه السلام)طويلاً من النهارِ مَطروحاً على وجهِ الأرضِ، ولو شاؤُوا أنْ يقتُلوه لفَعلَوا، إلاّ أنّ كلّ قبيلة تتّكلُ على الأُخرى وتكرهُ الإقدامَ، فنادى شمرٌ بالناسِ: ويحكُمْ ما تنتظرونَ بالرجلِ؟ أُقتلُوه ثكلتْكُمْ أمهاتُكُمْ فحَمَلُوا عليهِ من كلّ جانب، فضَربَهُ زرعةُ بنُ شريكِ التميمي على كتفِهِ (الأيسر)، وضَربَهُ آخرُ على عاتِقِهِ المُقدّسِ بالسيفِ ضربةً كبا بها على وجهِهِ، وكانَ قد أَعيا، فجَعلَ ينوءُ برقبتِهِ ويكبُو على الأرضِ، وفي تلكَ الحالِ حمَلَ عليهِ سنانُ بنُ أنس النَخعي فطَعنَهُ بالرمحِ في ترقوتِهِ فوقَعَ، ثُمّ انتزعَ الرمحَ فطَعنَهُ في بوانِي صدرِهِ، ثُمّ رماهُ بسهم وقعَ في نَحرِهِ، فنزَعَ السّهمَ من نحرِهِ وقرنَ كفّيهِ جميعاً، فكُلّما امتلأَتَا من دمائِهِ خَضّبَ بهما رأسَهُ ولحيَتَهُ وهو يقولُ:«هكذا ألقَى اللهَ مُخَضّباً بدمِي مَغْصوبَاً عليّ حقّي». وهو بتلك الحال عليه السلام
أقْبلَ فرسُ الحُسينِ (عليه السلام)يَدورُ حولَهُ ويُلطّخُ ناصيَتَهُ بدِمِهِ، ويشَمُّهُ ويَصهلُ صَهيلاً عَالياً، وعنْ الإمامِ الباقرِ (عليه السلام)أنّه كانَ يقولُ في صهيلِهِ: «الظليمةَ الظليمةَ من أمّة قتلَتْ ابنَ بنتِ نبيِّها».
وتوجَّهَ نحوَ المخيّمِ بذلكَ الصهيلِ الحزينِ، فلمّا نظرَت النساءُ إلى الجوادِ مخزيّاً، وسرجُهُ عليهِ ملويّاً برزْنَ من الخُدورِ... بعدَ العزِّ مذلّلاتٌ، وإلى مَصرعِ الحُسينِ مُبادِراتٌ تتقدمهُنّ الحوراءُ زينبُ (عليها السلام)وهي تُنادي:
«وامُحمّداهُ، واعليّاه، واجعفراه، واحمزتاه، واسيداه! هذا حسينٌ بالعراءِ، صريعٌ بكربلاءَ، ليتَ السماءَ أُطْبِقَتْ على الأرضِ وليتَ الجبالَ تَدكدَكَتْ على السَهلِ»
وانتهتْ زينبُ (عليها السلام)نحوَ الحُسينِ (عليه السلام)، وقد دَنَا منْهُ عُمَرُ بنُ سعد ، ـ والحُسينُ يَجودُ بنفسِهِ ـ فصاحتْ بهِ :
«أيْ عُمَرُ، ويحكَ أيُقتَلُ أبُو عبدِ اللهِ وأنتَ تَنظرُ إليهِ» فَصرَفَ وجهَهُ عنْها... فعندَ ذلكَ صاحَتْ بالقومِ (ويحَكم ما فيكم مسلم)؟ فلَم يُجبْها أحدٌ. ثُمّ صاحَ ابنُ سعد بالناسِ: إنزلُوا إليهِ فأَريْحوهُ. فنَزلَ إليهِ شِمرُ بنُ ذي الجوشنِ فَرَفَسَهُ برجلِهِ وجَلَسَ على صدْرِهِ وقَبضَ علَى شيبتِهِ المقدسةِ وضربَهُ بالسيفِ واحتزَّ رأسَهُ الشريفِ. (وإماماه واحسيناه).