ابن الشاطر.. مكتشف النظام الشمسي |
|
لوحة تعكس نشاط العلماء المسلمين ومنهم ابن الشاطر في القرن الثالث عشر |
الحدث التاريخي هو نواة التاريخ وسبب قيامه، والتاريخ في صفحاته متعدد الاتجاهات، والابطال هم الذين يصنعون تاريخهم، ومثلما وجد أبطال من الملوك والأمراء والقادة والفرسان والشعراء من الرجال والنساء الذين أوفاهم التاريخ والمؤرخون حقهم ونالوا مكانتهم المميزة في الذاكرة الشعبية، وشاعت سيرهم وحفظت أخبارهم في سجلات المؤرخين وعند الخاص والعام، فان كثيرين غيرهم من المغمورين في التاريخ الذين لا يقلون عن هؤلاء بطولة وتأثيرا لم يأخذوا حقهم في الشهرة في الذاكرة الشعبية ولم تنل سيرهم وأفعالهم حظها في الذيوع، أو ان انتشارها ظل محصورا في إطار مكاني محدود وفي افق معرفي ضيق.
وقد يكون مرد ذلك لعدة أسباب منها طغيان أحداث كبرى واشتهار شخصيات أخرى في زمنهم، مما كانت شهرتهم على حسابهم، أو سقوط أماكنهم ومناطقهم في دائرة الإهمال والنسيان لبعدهم عن مواطن الحضارة ومراكز المعرفة، ولا يعني ذلك أنهم مجهولون تماما.
قد يكون هؤلاء المغمورون معروفين لدى أهل العلم من المتخصصين والباحثين أو يكونون مشهورين في بلدانهم أو طوائفهم أو جماعاتهم، لكن سيرتهم لم تتجاوز الإطار الجغرافي أو الزماني الذي صنعوا أحداثه. ومن اجل هؤلاء الأبطال المغمورين في التاريخ نقدم هذه السلسلة. والى شخصية اليوم:
هو العلامة الفلكي المسلم أبو الحسن علاء الدين علي بن إبراهيم بن محمد بن الهمام الأنصاري، المعروف بابن الشاطر، وكذلك بالمطعّ.م لاشتغاله بتطعيم العاج. ولد في دمشق وتوفي بها في عام 1375م. مات والده وعمره ست سنوات، فتولى جده تربيته، ثم سلمه لزوج خالته وابن عم أبيه لتعليمه فن تطعيم العاج، الذي حصل منه على ثروة كبيرة وامتلك دارا فاخرة.
عمل في وظيفة التوقيت ورئاسة المؤذنين في الجامع الأموي بدمشق، وتميّز بالإبداع والابتكار والتجديد المتواصل. ولعل هذا جاء بسبب انهماكه في تخصصه في علمي الفلك والرياضيات، وقد عمل في بداية حياته في الهندسة.
يعد من الفلكيين المجددين وعمالقة العصر الفلكي الحديث. وصفه المؤرخ الصفدي بقوله «إن من تقدمه من الافاضل عند جيل علمه هباء، ولو رآه اقليدس لما كان عنه الا نقطة من خطه، ولو رآه ارخميدس لرأى شكله قطاعاً من تحريره وضبطه».
ابتكر النظام الشمسي قبل كوبرنيكوس بنحو قرنين من الزمان.
اختراعاته
اخترع ابن الشاطر مزولة او بسيط، وهي الساعة الشمسية التي استخدمت لتحديد اوقات الصلاة، فهي تعتمد على الشمس وزاوية انحرافها عن الافق، اي ان مبدأها يعتمد على الزوايا عوضاً عن الساعة والدقائق والثواني. ووضعها ابن الشاطر على منارة العروس في باحة المسجد الاموي الشمالي، ونقشت عليها دوائر البروج الاثنتي عشرة. ويتوسطها مؤشر نحاسي لمعرفة مواقيت الصلاة في الفصول الاربعة، اي خلال 12 شهراً، وقد ثبت هذا المؤشر بشكل عمودي على اللوحة، وعلى احد جانبي اللوحة النص التوثيقي «صنعت هذه الآلة الجامعة للاعمال المواقيتية». ويعد ابن الشاطر بذلك أول مخترع لأول ساعة ميكانيكية معدنية، بعد أن كانت صناعة الساعات تعتمد على الخشب القاسي وعلى قوة الماء في دورانها. وفي ذلك يقول محمد أحمد دهمان في مقدمته لكتاب «علم الساعات والعمل بها» لرضوان الساعاتي: «وانتهى علم الساعات إلى ابن الشاطر، فأخرجها من دائرة الماء إلى دائرة الميكانيك، ومن دائرة الخشب إلى دائرة المعدن».
وصنع ابن الشاطر كذلك ساعة صغيرة بعد أن كانت عدة أمتار، فجعلها نحو ثلاثين سنتيمتراً، وأدخل فيها الآلات المعدنية، واستغنى عن الماء والآلات الخشبية الطويلة.
صندوق اليواقيت
ومن مبتكراته الاخرى «صندوق اليواقيت بأعمال المواقيت»، وهي آلة فلكية متعددة الاستعمالات، جمعت أجزاؤها في علبة قليلة العمق بقاعدة مربعة مقفلة بغطاء ذي مفاصل، عن طريقها يمكن حساب المطالع المائلة بدمشق، ولخطوط العرض 30، 40، 50 كما يمكن للغطاء ان يفتح بشكل مواز لمستوى الاستواء السماوي ويمكن قراءة الزاوية الساعية على سلم قياس دائري موجود على الغطاء.
وابتكر كذلك الآلة الجامعة، وهي آلة تكون مدارا لاكثر العلوم الرياضية ولجميع اعمال الفلك المحتاج آلياً في علم المواقيت في كل عرض.
بعد ان امعن النظر في الآلات الفلكية وجدها مع كثرتها ليس فيها ما يفي بجميع الاعمال الفلكية في كل عرض، وكان يتخللها بعض الخلل، لذلك اخترع آلة سماها «الربع التام لمواقيت الإسلام»، لمعرفة مواقيت الصلاة، كما ابتكر اسطرلاباً لايزال موجوداً في مكتبة باريس الوطنية.
اكتشافاته
توصل ابن الشاطر عام 767هـ / 1365م إلى إثبات أن زاوية انحراف دائرة البروج تساوي 23 درجة و31 دقيقة، ومن المعروف أن القيمة الدقيقة التي توصّل إليها علماء الفلك في القرن العشرين، باستخدامهم الآلات الراصدة والحاسبات الحديثة هي23 درجة و31 دقيقة و19.8 ثانية، أي ان الفارق بين حساب ابن الشاطر، بوسائله البسيطة، وبين ما أبرزته الآلات الحديثة الفائقة الدقة كان فارقاً بسيطاً (19.8 ثانية).
مؤلفاته
ترك ابن الشاطر مؤلفات تجاوزت الثلاثين مؤلفاً، بعضها لايزال مفقوداً. ومن أهم مؤلفاته في الفلك: «رسالة في العمل بالرُبْع الهلالي» (آلة رصد)، و«رسالة في العمل بالربع الشيكازية» (آلة رصد)، و«زيج ابن الشاطر»، الذي يقول في مقدمته إنه وضعه بالاعتماد على المشاهدة المباشرة بنفسه بعد إتقانه علم الحساب والهندسة والمساحة، وإطلاعه على كتب من تقدمه بهذا الفن. ومن مؤلفاته أيضا كتاب «لمعة ابن الشاطر»، و«رسالة في العمل بالدقائق باختلاف الآفاق المرئية»، و«أرجوزة في الكواكب ورسالة في استخراج التأريخ»، و«آلة صندوق التواقيت» في الميقات.
نظرية النظام الشمسي
وضع أفلاطون القواعد لعلم الفلك الإغريقي، ووضع أرسطو وفيثاغورس نظريات مركزية الأرض، وحوالي سنة 140 بعد الميلاد اقترح بطليموس الفلكي الإسكندراني في كتابه «المجسطي» تمثيلا شاملا للكون، وهو تمثيل هندسي في طبيعته، قال فيه بثبوت الأرض مركزا للكون، وبجعل القمر والشمس والكواكب والنجوم ثابتة خلف الكل. وكان علماء المسلمين يشككون في هذه النظرية، ويعلمون ان هذا القول فيه أخطاء كبيرة، لكنهم لم يجدوا لها تعليلات مقنعة، وتتمثل هذه التعقيدات في اختلاف حركة الكواكب السيارة.
حتى جاء ابن الشاطر وأجرى تجاربه وسجل مشاهداته واستنتج خطأ هذه النظرية، فقام بتعديلها، ثم وضع هو نظرية حركة الكواكب وتمكن من تحديد مداري «عُطارد» و«القمر»، ووضع لحركتيهما نموذجين، ثم جاء الفلكي البولندي كوبرنيكوس بعده بنحو قرنين من الزمان، وانتحل هذه النظرية، أو الفكرة، أو النموذجين لنفسه، واشتهر هذا فيما بعد «بالنظام الكوبرنيكي» المشهور عند علماء الفلك أن أول من قال بنظرية مركزية الشمس هو العالم البولندي كوبرنيكوس. ومن هنا جاءت أهمية اكتشاف كوبرنيكوس لمركزية الشمس، وذاع صيته بين العلماء ومازال فضل اكتشاف هذه النظرية ملتصقا باسمه في جميع المصادر والمراجع بجميع دول العالم الحديث.
لكن النماذج الرياضية التي اعتمدها كوبرنيكوس والتي عُدّت بها نظريته جديدة وانقلابية، تكاد تكون هي ذاتها النماذج التي اكتشفها بعض الفلكيين المسلمين قبل كوبرنيكوس بقرنين تقريباً، مثلما هو الحال في مرصد مراغة. فقد أُعتبرت نظرية كوبرنيكوس بأنها مزدوجات من مخطط مدرسة مراغة الفلكية. واستعمل كوبرنيكوس مزدوجة نصير الدين الطوسي كما استعملها فلكيو مراغة، كما أن نماذجه الفلكية لخطوط الطول في كتابه «الشرح المختصر» مستمدة من نماذج ابن الشاطر. أما نماذجه الخاصة بالكواكب العليا كما في كتابه «دوران الأجرام السماوية»، فهي الأخرى استخدمت نماذج مراغة، وأن النماذج القمرية عند كل من كوبرنيكوس ومدرسة مراغة كانت متطابقة.
وكتب البروفسور ديفيد كنغ الاستاذ في جامعة غوته في فرانكفورت في ألمانيا مقالة نشرها في « قاموس الشخصيات العلمية» في عام 1950م، أكد فيها أن كثيرا من الأفكار المنسوبة إلى كوبرنيكوس قد استمدها من ابن الشاطر. وأكد هذا أيضا العثور على مخطوطات عربية في بولندا موطن كوبرنيكوس في عام 1393هـ / 1973م، اتضح فيها أن كوبرنيكوس كان على اطلاع بإنجازات العلماء المسلمين، وكان يأخذ منها ويدعيها لنفسه، كما تؤكد العديد من المصادر أن كوبرنيكوس درس علم الفلك عند العرب.
ويقول عالم اوروبي آخر هو توبي هاف أن شخصيات في مدرسة مراغة الفلكية الاسلامية ، مثل الأزدي والطوسي وقطب الدين الشيرازي وابن الشاطر، قد نجحوا في الوصول إلى نماذج لهيئة الكون، غير نموذج بطليموس، تكررت بعد ذلك في كتاب كوبرنيكوس.. وإن التماثل بين نماذج الأجرام في مدرسة مراغة، كما عدلها ابن الشاطر، والنماذج لدى كوبرنيكوس كبير إلى حد يمكن القول معه أن كوبرنيكوس قد يمكن أن يُعد أحد أتباع مدرسة مراغة.
شخصيتهالعالم العربي ابن الشاطر هو احد الفلكيين المجددين وعمالقة العصر الفلكي. عمل في علم الفلك بعد إتقانه علم الحساب والهندسة والميكانيكا، وتعلم صنع الآلات الفلكية وابتكر الكثير منها.
لكن قيمته العلمية ومكانته في علم الفلك كانت مطمورة ومهضومة، حتى انتبه العالم إلى إسهاماته متأخرا، وبالتحديد في أواسط القرن العشرين الميلادي، عندما لفت الفلكي الأميركي إدوارد كيندي وطلابه في الجامعة الأميركية في بيروت الأنظار إلى أفكار ابن الشاطر الفلكية، خصوصا النموذج الشمسي. وصرح بأن حسابات كوبرنيكوس ونتائجه هي نفسها حسابات ابن الشاطر ونتائجه، التي حصل عليها قبل كوبرنيكوس بنحو قرنين من الزمان، وأنه يعد من الفلكيين المجددين وعمالقة العصر الفلكي الحديث، وقدم أدلة علمية على صحة أفكار العالم المسلم الكبير أبي الحسن بن الشاطر الذي توفي في عام 1375م بدمشق.
مدرسة مراغةفي نهاية القرن الثالث عشر ميلادي قام العالم الفلكي نصير الدين الطوسي بإنشاء مرصد ومدرسة للفلك في «مراغة» في شمال غربي ايران، وقد حاول فلكيو مراغة، حل الإكوانت وإيجاد بدائل لنظام بطليموس. وقد حقق فلكيو مراغة نجاحا أكثر من نظرائهم في الأندلس حيث أوجدوا بدائل للنظرية تلغي الإكوانت والتباين المركزي وكانوا أكثر دقة من نظام بطليموس في توقع مواضع الكواكب حسابيا وأفضل اتساقا مع الملاحظات الاستنباطية، وحل نصير الدين الطوسي عدة مشاكل في نظام بطليموس باستعمال مزدوجة الطوسي والتي لعبت فيما بعد دورا مهما في نظرية كوبرنيك.
وصف بعض المؤرخين أعمال فلكيي مراغة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر بثورة مراغة أو ثورة مدرسة مراغة أو الثورة العلمية قبل عصر النهضة.
ومن أهم أوجه هذه الثورة هو إدراك قدرة علم الفلك على وصف الأجسام الفيزيائية بلغة رياضية ووجوب عدم بقاء علم الفلك فرضيات رياضية، لأن ذلك يوثق الظاهرة فحسب. أدرك فلكيو مراغة أن نظرة أرسطو للحركة، بوصفها إما خطية أو دورانية غير صحيحة، كما أظهرت مزدوجة الطوسي أن الحركة الخطية يمكن إنتاجها بحركات دورانية.
تميزت ثورة مراغة بالابتعاد عن الأسس الفلسفية لعلماء اليونان والإغريق كأرسطو وبطليموس والاتجاه نحو التركيز على الملاحظة التجريبية وترضية الفلك، وبشكل عام الطبيعة. وكانت اكتشافات مدرسة "مراغة" تعتبر ثورة حقيقية في البحوث الفلكية، إذ أدت إلى تغيير جذري في المواقف إزاء مسلمات علم الفلك، باضافة لما وضعه هؤلاء العلماء من حركات الافلاك التي تحمل الكواكب المختلفة بتعابير هندسية رياضية تتوافق مع نتائج الأرصاد التي قاموا بها.