إفغيني تشيرنيافسكي.. العالم الروسي الذي يجيد 38 لغة

هل في استطاعة إنسان عادٍ يملك قدرات ذهنية متوسطة أن يستوعب مليون كلمة من عشرات اللغات الأجنبية الحية؟
هذا ما يؤكده العبقري الروسي إفغيني تشيرنيافسكي في السطور التالية..

اللغة مفتاح المعرفة

أنت تجيد 38 لغة، يبدو أنك تملك قدرات عقلية مذهلة، أو أنك صاحب ذاكرة جبارة وخارقة، وإذا لم يكن ذلك فأنت تعرف حيلة أو سرا ما في هذا الشأن!
إنني أسمع هذا الكلام باستمرار والناس مخطئة فيما تتصور، أريد أن أقول في البداية: إنه بالنسبة لي دراسة اللغات ليست هدفا في حد ذاته أو هدفا وكفى، لكن وسيلة مهمة، وسيلة للاطلاع على القيم الروحية للشعوب الأخرى وثقافاتها ومعارفها، ففي مرحلة سابقة لما كنت أعمل مهندسا كنت أتحرق شغفا بالميثولوجيا الجرمانية، وهذا ما حفزني لتعلم اللغة الألمانية وكذا اللغة السويدية، ومن ثمة التغلغل إلى المنطقة الإسكندنافية ككل بما فيها طبعا فنلاندا التي لم أتأخر في الانقضاض على لغتها ومن ثمة إجادتها.
إن اللغة تعد منفذا إلى المعرفة ومفتاحا للدخول إلى عوالم أخرى، هذا كله في تصوري يستحق بعض العناء والوقت.
وضمن مجال تعلم اللغات فإن الناس ينقسمون إلى أربع مجموعات أو أصناف: الأولى (وأنا منها): هم أولئك الذين يعشقون اللغات ومن ثمة فتعلمها بالنسبة لهم لا يشكل أي عائق ولا يتسبب في أية معاناة ولا حتى جهد، لكنها المتعة بأتم ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
وضمن المجموعة الثانية أصنف الذين لا يجدون أية متعة أو لذة معينة في تعلمهم للغات، بل هم غير مكترثين باللغات أصلا لكنهم على وعي بأنه من دون معرفة للغة أجنبية لن يصلوا إلى هدفهم المحدد، الشيء الذي يجعلهم على استعداد تام لبذل جهد منتظم لكي يتعلموا هذه اللغة.
المجموعة الثالثة: تضم أولئك الذين يوافقون على تعلم لغة أجنبية لكن على شرط ألا يكون عن قسر وإكراه، وأن يكون لذلك مردود إيجابي.
وفي النهاية يأتي دور المجموعة الرابعة: وهم مع كل الأسف الأغلبية الساحقة الذين يشكلون العدد الكبير من الأشخاص ممن لا يعيرون أي اعتبار إلى اللغات الأجنبية ولا يريدون أبداً أن يحركوا ساكنا بغية تحقيق نتيجة في هذا الميدان.
إذن الخلاصة تتمثل فيما يلي:
الأشخاص الذين يمثلون المجموعة الأولى يحصلون على النجاح في اكتساب اللغات الأجنبية دائما وفي كل الأحوال. وفيما يتعلق بالمجموعة الرابعة فهم على خلاف ذلك لا يصلون إلى أي هدف يستحق الذكر وفي كل الظروف، وهذا هو برأيي ما يجعل أشخاص المجموعة الثانية والثالثة في حاجة إلى نصائح وإرشادات عملية وإليهم أتوجه بكلامي تحديدا.

تعلم اللغة جهد يومي

لقد شاهدنا خلال العشريات الأخيرة في العالم بروز أنظمة ومناهج لا يكاد يعدها حصر، وهي خاصة بتعلم اللغات وكل واحد منها يزعم أنه أعجوبة بيداغوجية، ويعد بتحقيق نتائج سريعة وفعالة بأقصر السبل.
فالكل يطرح عليك فكرة تعلم هذه اللغة أو تلك في مدة عام، و6 أشهر، وشهر، وبدون أي عناء يذكر، أي وأنت جالس على أريكة طرية مستمعا إلى موسيقى محببة، بل لقد قرأت إعلانا يعد بتعلم اللغة الإنجليزية في ثلاثة أسابيع فقط.
إن العلم بالقطع يتقدم ويتطور، والخبراء في تعلم اللغات، عن طريق دراسة الأنساق التي تؤدي إلى استيعابها، يكتشفون في كل مرة قوانين جديدة تمنحهم شروحا مبدعة وتقود إلى تطبيق نتائج اكتشافاتهم وملاحظاتهم واستعمالها ضمن المناهج والمقررات الدراسية، هذا كله طيب، والجانب السيئ في الأمر هو كون هذه المناهج تعد بأكثر مما تستطيع تحقيقه في الواقع لعدة أسباب:
أولا: لا يوجد منهج واحد عالمي لتعلم لغة أجنبية، فكل فرد له طريقته الخاصة والمباشرة ومزايا هذه الطريقة تخضع للشروط الملموسة.. من يتعلم اللغة؟ أي لغة؟ كم لغة يعرف هذا الدارس من قبل؟ ما هو الهدف من تعلم لغة؟ إن اختيار المنهج يخضع لكل هذه الشروط جميعا.
ثانيا: إن الإنسان يكتسب «بسهولة وسرعة» جملة من المعارف والعادات التي تختزل ضمن حد تصبح فيه عبارة عن جدول مختصر جدا من المفاهيم لكنه غير قادر على الاحتفاظ بها خارج الإطار الذي تعلمها فيه حتى ولو كانت مواضيع بسيطة أو قراءة كتاب، أو صحيفة أو كتابة رسالة.. إلخ.
هناك أيضا حالة نموذجية من جهة تحث باستمرار وعن خطإ من يحلم باكتساب في سرعة وسهولة معارف، ومن جهة أخرى خلق محيط مغذ لنشرها، ونقصد بكلامنا ذلك الشخص الذي كان قد تعلم لغة أجنبية إبان طفولته في المدرسة بشكل سيء وعن تهاون وتقصير، ثم بدا له أنه لم يتعلم شيئا وعندما صار راشدا بدأ يأخذ دروسا في هذه اللغة بشيء من الحماس يظهر أنه في النهاية بالفعل تعلم شيئا ما، أي مثلما يَعِد ذلك الإعلان.
لكن نقول: «يظهر» فقط لأن سنوات التعلم في المدرسة لم تمنح له شيئا على ما يلوح، بيد أن أولائك الأساتذة أدخلوا في مخ ذلك الشخص حشوا كمية من المعارف الضمنية وخلال الدروس لم يعلمه أساتذته الجدد في الحقيقة «اللغة» بل إنهم «لمعوها» بحيث نشطوا معارف ضمنية سابقة، ومن هنا لا يمكننا أن نسمي هذا الفعل دراسة للغة.
ثمة طريقة أصيلة ووحيدة لتعلم لغة أجنبية وهي العمل اليومي.
ترى أي طريقة يمكننا أن نقارن بها هذه الأخيرة وهي قديمة قدم العالم؟ لنجرب ربما طريقة تعلم العزف على آلة موسيقية.. إذا أردت أن تصبح عازفا ماهرا على البيانو أو الكمان طبعا لا يكفي أن تتقن قراءة النوطات والسولفاج، بل عليك أن تتمرن بانتظام وثبات يوميا دون انقطاع ولمدة سنوات على هذه الآلة أو تلك، داخل هذا الإطار فإن اكتساب لغة أجنبية يشبه تماما طريقة تكوين الموسيقار.

قانون تشيرنيافسكي

الغريب أننا لا نأخذ هذا العامل الجوهري بعين الاعتبار، فكيف لنا أن نعرف لغة إذا لم نتمرن ونمارس هذه اللغة؟ فضلا عن أن هذا يتطلب سنين عديدة لكن لنركز الآن حديثنا على الجوانب الأكثر تفاؤلا.
وسوف أبدأ بـ «قانون تشيرنيافسكي» ولتعذروا عدم تواضعي في هذه التسمية، بإمكاننا أن نصوغ هذا القانون على النحو التالي: كل لغة نتعلمها تتطلب نصف الجهد المبذول في تعلم اللغة السابقة عليها، فإذا نظرنا إلى لغة من ناحية المدة الزمنية التي نقضيها في تعلمها فإن اللغة الثانية لا تتطلب لتعلمها سوى مرتين أقل، والثالثة نصف الجهد المبذول لتعلم الثانية، وهكذا دواليك، وهذا يعني أنك إذا تعلمت لغة في أربع سنوات فإنك سوف تتعلم اللغة الرابعة في مدة ستة أشهر، كل هذا واقع وحقيقي طالما نظل في إطار عائلة لغوية واحدة، مثلا الفرنسية ثم الإسبانية ثم الإيطالية وفي النهاية البرتغالية، حتى اللغة التي تنتمي إلى عائلة لغوية أخرى فإنها تكتسب بسهولة إذا عرفنا لغات أخرى، حيث تتطلب على سبيل المثال ليس نصف المدة لكن ثلث أرباع الجهد المطلوب لتعلم اللغة السابقة (اللغة الإندونيسية بعد اللغة الإنجليزية مثلا) ذلك لأن الشخص المتمرن من قبل يستوعب ويهضم بسرعة دقائق اللغة الجديدة.
هناك شيء آخر هو أننا نقول دائما: «أحب كثيرا أن أتعلم اللغة الفلانية حتى إنني بدأت القيام بذلك لكن الوقت لا يسعفني» سوف أتحمل مسؤولية التوكيد على أن هذه الشكوى لا شعورية، وأن النظام هو المفقود وليس الوقت والإرادة، وكي تحقق تطورات في تعلم لغة أجنبية يكفي أن تكرس لها نصف ساعة في اليوم، وهو أمر يساعد دون شك الجميع، لكن ينبغي أن نملك ما يكفي من الإرادة للتقيد بهذا النظام وألا نترك عمل اليوم إلى الغد.

أما بعد

أقول في الختام: إنني أعرف عشرات من اللغات (38 لغة) لأنني لم أضيع أبداً الوقت في حياتي، إضافة إلى كل ذلك أنا أمارس عدة أنواع من الرياضة، فأنا أحب الرقص، والذهاب إلى المسرح، والسينما، وأقرأ بشراهة، والاهتمام بجملة من الأمور الحياتية الأخرى، إنني لا أضيع أبداً وقتي في الفراغ، وهذا هو «السر» الذي أستهدي به في حياتي.